محمد صالح مطيع ذئب الجبل الذي غدروا به

محمد صالح مطيع ذئمحمد صالح مطيع ذئب الجبل الذي غدروا به

الميلاد والنشأة

ولد المناضل الثورى محمد صالح مطيع فى منطقة القعيطى بيافع العليا فى قرية سرو حمير فى 1940 , لأسرة قبلية عريقة , فقيرة المال , وثرية الجاه , وذات مكانة اجتماعية مؤثرة .
كان الشاب محمد صالح مطيع ذئب فى وسط الذئاب , وأسد فى غابة الأسود , شجاع الهمة , مقدام ومجازف , وله من الصفات الحميدة كالعفة والإيثار, ودمث الخلق, وجسارة الهمة بما لا يمكن وصفه عند حدود .

وكان شعاره :
(الموت من اجل المبادئ , والحياة من اجل الثورة )

وكان يردد دائما :
" عوَى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عوَى
-------- وصوّت إنسانٌ , فكدتُ أطيرُ "

درس فى قريته القراءة والكتابة والقرآن الكريم , وأكمل دراسته الثانوية فى المعهد الفنى بالمعلا بعدن.
كان مفخرة شبابه , وزينة زمنه , وكان سابقا فعلا لزمنه وأقرانه , وكان يأخذ قدوته من أفاضل معلميه وأساتذته .
كان محافظا على دينه وإسلامه , برغم التربية الحزبية للقوميين العرب التى كانت لا تهتم بالدين والماركسية التى لا تعير اهتماما للمسألة الدينية , بل وتحاربها.
كان يمارس طقوس دينه سرا حتى لا يتهم بالرجعية والتحريفية أو اليمينية أو الانتهازية اليسارية.
ومن البداية كان الرجل يلتقى مع الماركسيين حول الثورة ويحتفظ لنفسه بمسافات طويلة من الاعتقاد بقوانين السماء وقيم الأرض .
كان وطنيا معتدلا فى تفكيره ,. ولم يكن مندفعا باتجاه الحلول الماركسية , برغم التربية الحزبية القومية ثم الماركسية التى يعتنقها قبائل الماركسية حتى الذين يجهلون القراءة والكتابة . ( 125 )
كانت هذه الفواصل هى حياته وتفكيره ومبتغاة , ولأنه ربما وجد فى زمن غير زمنه ورفاق أضلهم الجهل والتشوق الى السلطة , فأعماهم عن تنكب الطريق الصحيح المؤدى الى الغايات العظيمة السامية .

* * *

نضاله الثورى .. وتطلعه الوطنى

كانت أول عملية يقوم بها هى ضرب الاذاعة العربية , التابعة للإدارة البريطانية فى التواهى فى مارس 1965 , وكانت من اكبر العمليات الفدائية الناجحة , التى انتشر بعدها اسلوب العمل المسلح ضد الإدارة البريطانية ومنشئاتها .( وكان مطيع المناضل المقدام ؛ مطلوبا من الادارة البريطانية حيا أو ميتا).
حتى عام 1967 لم يكن للجبهة القومية أى تنسيق مع الإدارة البريطانية , بالرغم من وجود ضباط سياسين يعملون مع الإدارة كـ :
( سيف الضالعى مثلا ) وهو من مؤسسى حركة القوميين العرب مع فيصل عبد اللطيــــف الشعبى والضابط السياسى ( فضل أحمد ناصر السلامى ) , شقيق المناضل المؤسس للحركة مع فيصل الشعبى فى الشيخ عثمان ( على أحمد ناصر السلامى ) .. وغيرهم.. وغيرهم .
وعندما تبنت الجمهورية العربية المتحدة حركة النضال المسلح فى صيف 1965 حيث فتحت لها مكتبا متخصصا لشؤون الجنوب ودعمه , استطاع مناضلى الجبهة القومية فى هذه الفترة بدعم من المكتب العربى المصرى أن يحصلوا على دورات عسكرية فى تعز للتدريب على حرب العصابات .
وكان محمد صالح مطيع من أوائل الملتحقين بهذه الدورات مع رعيل من المناضلين من جميع جبهات القتال ( عدن بفروعها , ردفان ، الضالع , حالمين , الشعيب , ثم المنطقة الوسطى , وتشمل دثينة وبعض مناطق أبين ).

تولى محمد صالح مطيع بعد انتهاء الدورة مسئولية العمل الفدائى فى عدن وكان يشكل مع سالم ربيع على وهو زميله فى الجبل ايقاع ثنائى متناغم لتسيير وقيادة العمل المسلح .
وفى 13 يناير عام 1966 حدث الدمج بين الجبهة القومية والفصائل الوطنية الأخرى وقامت جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل , فعارضها القوميون العرب وعناصر الجبهة القومية الملتزمين للحركة ومن بينهم مطيع فعارضوا الدمج وسياسة الجمهورية العربية المتحدة فحرموا من الدعم المالى والعسكرى وجمد نشاطهم واشتعلت مدينة عدن وضواحيها بحرب العصابات كما اشتعلت جميع مناطق جبهات القتال الأخرى.
فى هذا الوقت كان المناضل محمد صالح مطيع . أسير أشواقه للثورة , والتزامه بعدم الخروج على رفاقه , فجاع مع من جاع وتشرد مع من تشرد , ولكنه بقى صامدا
وبدراسة شخصيته الوطنية النقية استطاع الجهاز العربى أن ينتشله ويبعده عن رفاقه المتعصبين بدورة عسكرية إلى القاهرة , فى صيف 1966 .

كان محمد صالح مطيع – ذئب الجبل – صديق عزيز , عرفته فى القاهرة وسمعت عنه فى اليمن .
وذات يوم وكنت مسئولا يومها فى مكتب جبهة التحرير جنوب اليمن بالقاهرة مسئولا لشئون الإعلام والطلبة فى المكتب الرئيسى .
اتصل بى هاتفيا, الصديق العزيز المناضل محمد صالح مطيع فأجبته : مرحبا .. من معى ؟
قال لى : محمد صالح مطيع
قلت له : أهلا وسهلا .. شرفت القاهرة.
فأجاب : أريد مقابلتك .
قلت : تشرفنا الآن إذا أحببت فى مكتب جبهة التحرير أمام حديقة الحيوان بالجيزة .
أعطيته العنوان , لكنه اعتذر أنه لا يريد أن يقابلنى مع السياسيين فى مكتب الجبهة, وكانت عنده وعند رفاقه عقدة من السيد عبد الله الأصنج , فخيرته بين أن أراه هنا فى المكتب العام , أو فى مكتبى الخاص التابع لجبهة التحرير لشئون الطلبة فى المساء فى باب اللوق وسط البلد.
ففضل هذا الخيار والتقينا ..
ومن يومها كان الرجل لا يأنس لأحد , إلا للقائنا فى الساعة السابعة مساءا يوميا للاستماع إلى برنامج ( نداء الجنوب المحتل ) من إذاعة صوت العرب الموجه إلى عدن وجنوب شبه الجزيرة العربية , وكنا نذهب فى نهاية المطاف إلى مطعم شعبى بجوارنا اسمه ( الدمياطى ) يقدم الوجبات الشعبية الطازجة , وبعد العشاء يتكل كل واحد منا إلى ملاذه , وكان لا ينقطع عن الحضور إلى مكتبى ولو لليلة واحدة .
وذات يوم دعانا العم عمر ( الشيخ عمرقاسم العيسائى اليافعى ) إلى منزله فى العجوزة بالجيزة , وكعادته حاول أن يختبر خياراتنا .
فكان رحمه الله يحاول أن يصطاد بمرحه المعتاد فى مسألة خلافتنا , فلم يستطع.
فقال :" أنا محتار بينكما .. كيف تلتقيان وأنتما متناقضان ؟؟ فى الفكرة والعقيدة .."
فقال له مطيع : أخى عوض مناضل من مناضلى حرب التحرير .. نعتز به .
وعندما قلت أن مطيع من أشرف المناضلين فى الجبهة القومية , وضع العم عمر كفه الأيمن على جبهته وقال :
" أهنئكما على صداقتكم وأخوتكم فى الله ".
ومن يومها ظل مطيع صديقا حميما حتى حدوث الاستقلال وتولى وزارة الداخلية أولا ثم الخارجية , وكان فى كل رحلة يمر فى القاهرة يتصل بى مجرد وصوله إلى الفندق ودارت حوارات كثيرة ، وكان يحرص أن يقول لهم - وهو يعرف نواياهم(أي لرفاقه في السلطة) – أن الأخ عوض موافق على دعوتكم ولكن بشروطه الخاصة .. إنه لا يريد منصبا ولا جاها كما فهمت من إجاباته , وإنما يريد مصالحة وطنية عامة وشاملة وكان يشجعنى على هذا الخط وينصحنى بعدم العودة إلا إذا حدثت هذه المصالحة , وبضمان جمهورية مصر العربية .
وسقت على هذا الموضوع , حتى عندما طلب لقائى السيد على ناصر محمد وهو وزيرا للدفاع , فتقابلنا فى القاهرة بمنزل السيد ناصر السقاف وكان الأخير حاضرا معنا , فاعتذرت لكل إغراءاته التى حملها من المكتب السياسى على حد زعمه وطالبت بالمصالحة الوطنية الشاملة .
وكثرت الوفود والاتصالات ولكنها لم تؤد إلى شىء , وعندما يعود ذئب الجبل إلى القاهرة يشد على يدى مباركا هذه الرؤية من جانبى .
إلى أن قبضوا عليه فى عام 1981 , وقتلوه على النحو الذى سنتاوله.
* * *

مهمات فى حياة الرجل

تقلد السيد محمد صالح مطيع بعد الاستقلال وزارة الداخلية وكانت هذه الوزارة سيئة السمعة , فنأى الرجل بنفسه عن التورط فى أية مهمات تتعلق بالتنكيل بالناس ومطاردة المناضلين وتلفيق التهم , حتى أنهم استنكروا عليه ذلك , كان الرجل مرنا وحكيما فى تبريره , كان يقول " لا نريد يا رفاق أن نحمل الثورة أحقادا وضغائن واتهامات للناس بدون وجه حق , إلا حق الثورة فإننا لا نتهاون فيه ".
وظل يخلص الناس بطريقة غير مباشرة عن تهم تلفق لهم فيوجه مساعديه بإطلاق سراح هؤلاء الأبرياء , وعندما اكتشفوا أن الرجل ليس رجلهم المبتغى عملوا على إسناد وزارة الخارجية إليه ..

لمـــــــــــــاذا؟؟

لمـــــــــــــاذا؟؟
لأنه ليس لديهم كادرا أو كفاءات لشغل منصب وزارة الخارجية فأسندوا إليه المنصب فى عهد سالمين , وظل الرجل محافظا على إيقاعات الوسطية والكياسة فى التعامل مع الدول العربية الشقيقة المتخوفة من نزعات واندفاعات
الصبية فى الجبهة القومية باتجاه الماركسية والشيوعية , فهدأ بطريقته الخاصة رفاقه من عدم التمادى فى إشعال التصريحات النارية فى الوقت الذى كان يجسد أمام دول الخليج بالذات والسعودية مبدأ التعاون والتعامل الأخوى الصادق, لمصلحة بلاده وبلادهم وترتب على ذلك إقناع المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات بفتح صفحة جديدة مع اليمن الجنوبى .
وعندما رأى الرفاق نجاحه فى مهمته واستئثاره بإشادة الأخوة العرب بمرونته وتفهمه , سلطوا عليه حقدهم وغيرتهم وعدائهم لدرجة التآمر القاتل .

وذات مرة فى عام 1981 زار المملكة العربية السعودية واتفق معهم على تطبيع العلاقات غير العادية بين بلاده وبلدانهم , ونتيجة لصراع الرفاق على المناصب العليا من جهة أخرى فقد حصل صراع بين على عنتر وزير الدفاع وبين محمد صالح مطيع وزير الخارجية على تقلد منصب رئيس الوزراء الذى كان مرشحا له مطيع بقوة , وهذا الخلاف تحول إلى صراع بين على عنتر الذى كان مع مطيع صفا واحدا وبين الأخير إلى درجة أن عنتر أصر على التخلص من مطيع , فزج به إلى المعتقل بناءا على قرار من المكتب السياسى , ولفقت له تهمة التآمر لصالح دولة عربية , وهى ( المملكة العربية السعودية ) حيث تنصتوا على مكالمة تليفونية بينه وبين وزير خارجة السعودية , يذكره فيها بالنقاط التى اتفقوا عليها , فكانت هذه هى القشة التى قسمت ظهر البعير , وكانت هى حجتهم باتهامه بالتآمر مما أدى إلى اعتقاله لمدة 8 شهور بدون محاكمة .
ومن ثم كما يطرح الأخ العزيز ( فضل النقيب ) فى أحد تحليلاته : " جرى تلفيق تهمة الخيانة الوطنية له من قبل "الرفاق " المنتصرين الذى سيفرغون بعد مقتله للتربص ببعضهم البعض وصولا إلى مذابح 1986 التى جرت على الهوية , وكأن المواطنون فى نظام ( الأبارتيد ) العنصرى الذى لم يعرف مثل تلك البشاعات "
مضيفا " أما كيف تم تنفيذ حكم الإعدام ( القراقوشى ) فأمر تشمئز منه النفوس والأبدان , فقد قيل ل " مطيع " ما رأيك فى القيام بجولة حول عدن ؟؟ وقد صعد إلى جانب السائق الذى كان مسئولا أمنيا كبيرا وفى الخلف صعد أحد " عتاة القتلة " وهو إرهابى دولى معروف (126 )

" وفى الطريق – والكلام لازال للنقيب – أخرج الإرهابى سلكا من جيبه وخنق بواسطته المناضل محمد صالح مطيع حتى الموت فى طريقة مستفادة من عتاولة المافيا ".
رحم الله مطيع فقد كان مناضلا شريفا ونزيها , ولكن رفاقه غدروا به , لأنهم كانوا يخشون ذئب الجبل كخشية بعضهم بعضا , لأن التآمر , كان ديدنهم وأسلوب حياتهم اليومية , من أجل تخلص بعضهم من بعض للوصول إلى السلطة .
فى إحدى المرات وأنا أتصفح الانترنت كتب أحد الرفاق - من عشيرته مع الأسف الشديد - يعزى به رفاقه الذين قتلوه وقال بالنص :
" لقد أخطأوا فى حقه .. ولكنهم مناضلون "
أى أنه يستدعى العذر لجرائمهم , بحجة أنهم ثوريون , وأن ذلك يشفع لهم فى قتل البشرية , حتى أقرب الناس إليهم .
دنيا .. أمرها غريب , والأغرب من ذلك كله منطق الرفاق الأعوج .. غير المستقيم.
لقد رحل ذئب الجبل , ضحية صدقه , ونقائه , وثوريته وعفته .
فهل يشفع التاريخ لرفاقه أن يغدروا به ؟؟ سؤال مطروح.

* * *

الرئيس على عبد الله صالح
يكرم ذئب الجبل فى ذكراه

فى لفتة كريمة كرم الأخ الرئيس على عبد الله صالح
اسم الشهيد محمد صالح مطيع بوسام " السادس والعشرين من سبتمبر من الدرجة الأولى " وهى لفتة للذين خدموا اليمن بشجاعة وشرف وإخلاص وذهب ضحية وفائه لمبادئ الثورة , والمصالح العليا للوطن.
وهذا التكريم يحمل فى ذاته إدانة ضمنية وأخلاقية كبرى لفكر المؤامرة والتعصب التى يمارسها الرفاق ضد الرفاق وضد الثورة اليمنية المباركة.
غفر الله لشهيد الأمة ومناضلها محمد صالح مطيع القعيطى اليافعى , وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ب الجبل الذي غدروا به